رست السفن الثلاث على سواحل امريكا، ولأن كولمبس اعتقد أنه قد وصل الهند اطلق هو ورجاله على اهالي الارض الاصليين اسم الهنود الحمر في اشارة الى لونهم المائل الى الحمرة، وعاد ببعض من اختطفهم منهم، كما عاد بكم من الذهب يفوق كل وصف، وانطلقت الحملات الاسبانية الى هذا العالم الذي أطلق عليه اسم جزر الهند الغربية، ولمامات كولمبس 1506م أصبح واضحا لدى الاسبان أنهم اكتشفوا قارة جديدة، لم يذكرها بطليموس ولا الكتاب المقدس، ومع تزايد تغلغلهم في أمريكا اكتشفوا حضارات راقية كان من أبرزها امبراطورية الاستيك في أمريكا الوسطى، فقرروا ابادة سكانها الذين يزيدون على الثلاثين مليونا في أبشع جريمة عرفها التاريخ الانساني في كل زمان ومكان.
لكن كيف تسنى لحفنة من القراصنة الاسبان
ان تسحق كل هذه الملايين؟ وبأية طريقة تيسر لقائد حملة الابادة هذه البحار الطماع هرناندو
كورتيس ان يقضي على جيوش ملك الاستيك الجرارة؟ وكيف استطاع اسر وقتل الملك موكتيزوما
نفسه رغم كون عصابة كورتيس لا تزيد على الخمسمئة في حين ان جيوش ملك المكسيك العاملة
كانت تزيد على المئتي ألف؟ لاشك ان هذا الامر يعد لغزا عجيبا من أعجب الغاز التاريخ
الانساني على الاطلاق، ومن أعقدها وأصعبها تفسيرا.
لقد ألفت مئات الكتب لتفسير هذه الواقعة،
وقدمت نظريات كثيرة، خلال القرون الخمسة الماضية، ولعل اكثر تلك النظريات واقعية وعمقا
نظرية المفكر البلغاري الفرنسي تزيفيتان تودوروف، التي جاءت في التسعينيات احتفالا
بمرور خمسة قرون على غزو امريكا، وهو احتفال خصه بكتابه القيم »فتح امريكا: مسألة الاخر«،
والذي يسعى لتبرير كل ما حدث من منظور ثقافي، اي برده الى طبيعة الثقافة ومعطياتها
التي جعلت الاسبان يتفوقون على الهنود، فالثقافة بهذا المعنى هي اخطر سلاح يمكن ان
يشهره الغازي في وجه ضحاياه، لأنها تسمح له بالتحكم في عملية الاتصال بين الطرفين.
عودة كواتزكواتل
على العكس من الاسبان وغيرهم من أهل العالم
القديم الذين كانوا يجهلون وجود أمريكا من الأساس، فان الهنود الحمر كانوا يؤمنون ايمانا
عميقا بثلاثة عشر أسطورة تتحدث عن مجيء آلهة بيضاء من الشرق عبر أمواج المحيط، ستكون
مخلصة لهم من جميع الشرور والخطايا، وبالتالي كانوا يجمعون قطع الذهب والمعادن النفيسة
ليقدموها قرابين الى هذه الآلهة المقدسة حال ظهورها، وقد راجت الاساطير وأصبح الترقب
محموما في فترة قصيرة قبل مجيء الاوروبيين، لدى شعب الاستيك الراقي في المكسيك، وسيطرت
على الناس أجواء اسطورة مجيء كواتزكواتل الذي كان خصوم الاستيك ايضا من الهنود الحمر
الاخرين يرون انه سيكون الى جانبهم ضد الاستيك الذين بنوا دولتهم الراقية على أنقاض
دولهم الهندية الحمراء الاخرى.
وما ان ظهرت سفن كولمبس لأول مرة مقابل
سواحل سان سلفادور حتى كان الناس يصرخون في الوهاد المقابلة للساحل بأعلى اصواتهم
»لقد جاء.. اخيرا جاء« وهم يعنون اله اساطيرهم، وكان من اللافت ان كولمبس عاد الى اسبانيا
بعد فترة قليلة وسفنه محملة بالذهب، كما قام برحلة ثانية بعدها بفترة قصيرة وعاد بالقدر
نفسه من الغنائم، هذا مع أنه لم يتوغل في البر الامريكي كثيرا، وراحت بعده سفن الذهب
كما سميت تمخر عباب المحيط ذهابا وإيابا وهي تئن تحت وطأة الذهب، مما أدى الى تضخم
فظيع ضرب تجارة اوروبا عامة بفعل كثرة المعدن النفيس الذي كانت جزر الهند الغربية تضخه.
ان الاسبان لم يكتشفوا وقتها مناجم ذهب،
وإنما كان الهنود الحمر بمقتضى ثقافتهم يجمعونه منذ قرون عديدة بانتظار هذه »الآلهة
البيضاء«، ليقدموه قرابين لها، وكان ملك الاستيك يكلف مئات من رجاله بمراقبة السواحل،
ومتى ما رأوا سفن الاسبان، يرسلون اليه عدائين معروفين بسرعة الجري، ليخبروه بمجيء
كواتزكواتل، فيصدر هو بدوره اوامر بإرسال الذهب اليه، لعله يتقبل القرابين وينصرف من
حيث جاء.
وقد استغل كورتيس قائد الحملة الاسبانية
الفظيعة التي أبادت الهنود الحمر، هذه الاسطورة احسن استغلال، حيث حاول بشتى الوسائل
ان يؤكد لهم، ولخصمه ملك الاستيك خاصة، أنه اله، وتحديدا فهو كواتزكواتل وما عليهم
بالتالي سوى ان يستسلموا له، وقد ساعدته على هذا الامر عوامل مجتمعة كثيرة، اولها لون
بشرته الابيض، ثم الخيل التي عنده، والبنادق، وهي أشياء غريبة يراها الهنود الحمر لأول
مرة ويسمعونها، ثم امرأة هندية تعلمت كلام الاسبان بسرعة لا تصدق اسمها »لا مانليشي«،
وهي التي لعبت دور المترجم بالتالي بين كورتيس وموكتيزوما من جهة، وبين كورتيس وأسطورة
كواتزكواتل من جهة اخرى.
كان كورتيس اذا رأى جيش الهنود الحمر يأمر
بإطلاق نار البنادق المحشية بالبارود في السماء حتى يظنوا انه اله الصواعق والرعد،
ولهول المفاجأة كانوا يسقطون ارضا من الخوف، وكان يأمر بأن يمر الفرسان على الخيل من
بعيد خارج مدى سهام الهنود المسمومة وعلى الفرسان ان يختاروا ارضا صلبة حتى يكون وقع
حوافر الخيل قويا، وعندما تختفي الخيل وفرسانها في مثار النقع او عند مدى الرؤية لابد
ان يكون ذلك في جهة كورتيس، حتى يؤمن الهنود بأن هذه الكائنات السماوية تتجه اليه ومما
يزيد من خوفهم ان الكثيرين منهم كانوا يعتقدون ان الفارس والفرس كائن واحد له وجه وصدر
الانسان وبقية اله، خاصة انهم لفترة طويلة لم يروا الفرسان يترجلون عن خيلهم بناء على
توصية كورتيس.
واكثر من ذلك حين اجتماع الملك موكتيزوما
والمجرم كورتيس للمفاوضات في مكسيكو صعد به الى معبد من مئتي درجة وحين صعدا كل هذه
الدرجات، كان الاعياء باديا على الملك فقال لكورتيس ان كان يرغب في الاستراحة، فأكد
هذا له »نحن لا نتعب.. الآلهة لا تتعب«.
ولما حاصر الجيش الاستيكي عصابة كورتيس
في منطقة المستنقعات حول مكسيكو استغل معرفته بحصول كسوف وشيك فأبلغهم ان عليهم ان
يفكوا الحصار وإلا فانه سيحجب عنهم الشمس، وبعد مضي ساعة من الكسوف صدق الهنود ادعاءاته
وأكثر من ذلك ترسخ لديهم الاعتقاد بأنه اله الاسطورة كواتزكواتل، وقد وصلت الامور حدا
جعل كورتيس نفسه يكتب في مذكراته »أعتقد اننا لم نعد بحاجة الى معجزات«.
وبخدعة دعا الملك للمفاوضة فقتله، وبالتالي
بقي الجيش الاستيكي بدون قيادة، وهذا مما سهل على كورتيس قتل الألوف المؤلفة من الهنود
الحمر بالمدافع والبنادق وتحت سنابك الخيل، وفي فترة قصيرة، دمر مدينة مكسيكو التي
كان عدد سكانها يفوق الخمسين الفا، ومن ثم بدأت ابادة هذا الشعب طيلة القرن السادس
عشر، وقد لعب ايضا سلاح اخر جلبه الاسبان دون ان يعوا دورا كبيرا في هذه الابادة، وهو
الامراض التي لم يكن سكان امريكا يعرفونها كالأنفلونزا والسل وغيرها.
حدود الاخر وحدود الاتصال
كانت الثقافة اذن هي مصدر قوة كورتيس، وكانت
في الوقت نفسه هي سبب ضعف الهنود الحمر رغم قوتهم الساحقة على ارض الواقع، ففي حين
كان كريستوفر كولمبس سلبيا في عدم فهم خطورة اكتشافه لقارة جديدة، وهذا ما حرمه من
المبادرة في اتصاله بالهنود الحمر، مثله تماما نجد أن موكتيزوما ملك الهنود كان اكثر
سلبية في فهم حقيقة الغزاة الاسبان فبدلا من وضعهم في حجمهم الحقيقي كمجموعة من القراصنة
المجرمين حولهم الى آلهة، وجعل زعيم هذه العصابة اله البحر الشرقي الابيض كواتزكواتل.
كان كولمبس وموكتيزوما يعانيان على الارجح
مشكلة اتصال بالاخر، فهما لم يفهماه ولم يضعاه في حدوده الحقيقية، وكان السبب الاساسي
في ذلك انهما كانا اسيرين لارث ثقافي ثقيل، فكولمبس افترض انه يستحيل وجود ارض جديدة
لم يذكرها الكتاب المقدس ولا ذكرها بطليموس الذي لم تكن جغرافيته اقل قداسة، اما موكتيزوما
فان شبح عودة كواتزكواتل ظل يرسم على الدوام امام عينيه معنى اخر لكل تصرفات خصومه،
ومن هنا فان كل تصرف او علامة ثقافية كانوا
يؤدونها، تجد لها مقابلا ثقافيا في ذهنيته المثقلة بالعلامات والأساطير، خاصة اذا عرفنا
أن موكتيزوما نفسه كان كاهنا اكبر في شعبه، وعرفت عنه بلاغة خطابه وأسلوبه الراقي في
صف الكلمات اثناء الخطاب، بل إنه ذكر ان الهنود كانوا يعلمون الصغار الخطابة بطريقة
قاسية، اذ متى ما تلفظ الطفل بكلمة في مكان غير مناسب كانوا يخزونه بالشوك، وهذا مظهر
من مظاهر تقديس الاستيك للكلمة وللرموز الثقافية بعكس الهمج الغزاة الذين كانوا جمعا
من شذاذ الافاق، وسقط متاع قشتالة واراجون ارادت الملكة ايزابيلا التخلص منهم فأهدتهم
للقراصنة لا رغبة في اكتشاف ارض جديدة فهذا ليس من شأنها وهي المعروفة بالانعزالية،
وانما تعبيرا عن ميولها العاطفية وحبها لكولمبس، وفيما بعد اصبح الامر لهاثا وراء الذهب
القادم من جزر الهند الغربية.
لكن رغم اهمية العلامات والرموز الثقافية
والكلمة عند الهنود الحمر فإن ملكهم ظل يعاني مشكلة اتصال وعدم فهم للاخر، تماما مثل
كولمبس من الطرف الاسباني، اما كورتيس فكان الاكثر نجاحا بين الثلاثة، حيث سخر هذه
الدلالات مجتمعة، وجعلها كلها اطرافا في معادلته الجهنمية التي أدت به وبمجموعته الهمجية،
للقضاء على حضارة الاستيك الراقية، وبلغ قمة نجاحه في تسخير الدلالات الثقافية لصالحه،
حين زور التاريخ وأملى على المؤرخين تسجيلا مزيفا لكل ما جرى، فاعتبروه بطلا شجاعا
تمكن من الانتصار على شعب من الهمج، وحمل اليهم رسالة »الانسانية والتحضر«.
إبادة حضارة وثقافة
استمر قرن كامل من الابادة الجماعية لهذا
الشعب التي كانت تصل حد جمع سكان القرى وتحريقهم في حفر جماعية، وبعدها بدأت الاصوات
ترتفع للمطالبة بمعاملة اكثر رأفة، وهنا برز المفكر ورجل الدين لاس كازاس الذي سعى
عبر محاكمة طويلة ومريرة للبرهنة على أن الهنود الحمر يدخلون في عداد بني آدم ومن ثم
فإن على امبراطور اسبانيا ان يصدر قوانين تحميهم من الابادة.
وبعد ان دحض ادعاءات خصومه القائلة بأن
الهنود الحمر همج، بل انهم أحيانا يبدون كأشياء »فالسيوف تتكسر على رؤوسهم لفرط صلابتها«،
بعد ذلك كسب المحكمة وأصدر الامبراطور قانونا تاريخيا معروفا باسم »الريكريميانتو«
يقضي بتجميع قرى الهنود وان يقرأ عليهم نصه وفيه تخيير لهم بين ان يصبحوا عبيدا او
حيوانات للاسبان، أو أن يعلنوا ولاءهم للكنيسة والامبراطور، وبالتالي يعتبرون بشرا
»لهم الحقوق نفسها وعليهم الواجبات نفسها«. وبسرعة اصبح كل قائد اسباني يتجه الى قرى
الهنود الحمر الواقعة تحت سلطته، ويقرأ عليهم نص »الريكريميانتو« وينتظر جوابهم بعد
ساعة، ثم يبدأ في تقتيلهم واستعبادهم باسم كونهم عصاة لأوامر امبراطور اراجون وقشتالة،
والسبب المباشر في ذلك، ان »الريكريميانتو« كان يقرأ على الهنود باللغة الاسبانية التي
يجهلونها، ونظرا لعدم وجود مترجم فان الجميع لا يفهمون بعضهم بعضا وبالتالي يختفي الاتصال
بينهم تماما.
وهكذا حول القادة الاسبان حملة لاس كازاس
الشريفة والانسانية، عن مبادئها وحولوها لصالحهم، واستمرت عملية الابادة والتحريق وتمزيق
الاجساد، بل ان الامور وصلت حد تقديم احدى حسناوات شعب الاستيك طعاما للكلاب لأنها
رفضت مخادنة قائد اسباني، وهذه واقعة مسجلة رسميا في المذكرات وفي تاريخ جزر الهند
الغربية لساهاجون وفي السجل الفلورانسي المعروف كذلك.
فما الفرق اذن بين سادية هؤلاء الغزاة الذين
اتهموا الهنود الحمر بالهمجية، وبين همجية اولئك الهنود الحمر الذين كانوا يحسنون معاملة
الاسرى ويحترمون المرأة؟ وما الفرق بين حضارة القرابين الهندية وحضارة التحريق والتمزيق
وتقديم الحسناوات على مائدة الكلاب؟ ان الخروج بحكم قيمة بهذا الخصوص لا يعد بان الرجل
الابيض سيخرج مرفوع الرأس من هذه المقارنة.
ومع مطلع القرن السابع عشر كان عدد الهنود
الحمر في عموم القارتين الامريكيتين اقل من ثماني ملايين بعد ان كان اكثر من خمسين
مليونا، وهذا ما اضطر الغزاة الى البحث عن قرابين بشرية جديدة يكلفونها بتعمير القارة
التي ابادوا سكانها، وبعد ان فشلت حملاتهم على شمال افريقيا، ودفنت احلامهم وقتل ملوكهم
في معارك وادي المخازن بالمغرب، بعد كل ذلك اتجهوا الى افريقيا السوداء وبدأت ثاني
افظع جريمة ابادة وتهجير في التاريخ، ونعني تجارة الرقيق الاسود خلال القرنين الثامن
عشر والتاسع عشر، والتي ادت بدورها الى مآس طالت خمسين مليون افريقي اسود حسب بعض المصادر.
وحتى الان ما هي وضعية ثقافة الهنود الحمر؟
وما هو حجم وجودهم في القارتين الامريكيتين؟ ومتى يرفع الظلم عنهم؟ بل متى يعاملون
كمواطنين في هذه القارة التي يفترض انهم الاكثر حقا بملكيتها حيث تؤكد النظريات انهم
اول من نزح اليها عبر طريق صخري في الاسكا قادمين من اسيا منذ 50 الف سنة؟ وهي النظريات
نفسها التي تربطهم بالجنس المغولي وتشبههم به؟ واخيرا وليس اخرا لا تبدو الثقافة عنصرا
خطيرا خليقا بان يقرر مصير الانسان؟ يقوي موقفه او يضعفه؟ وقد رأينا ان الهنود الحمر
كانوا بالاساس ضحايا اسطورة كواتزكواتل، التي هي اصلا اسطورة هندية، حولوها هم انفسهم
الى وثن زائف يتغذى بضحايا حقيقيين، وكانوا هم ـ للأسف ـ تلك الضحايا بامتياز.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق